جراح وذكريات

فى ظلمة الليل ، تلك الظلمة النابعة من أعماقها ، بحثت عن درب ينأى بها عن ظلمهم وقسوتهم

بكت وتألمت وتحسست الدرب فاهتدت . اهتدت الى دربه، مد يديه الحانيتين اليها ، فوجدت بهما

دفئا غمر ذلك الفؤاد المكلوم ، ورقة أذابت ثلج عمرها الضائع ، وجدت طيبة انتشلتها من مياه الشر

الراكدة فى جوانب عالمها.

بين يديه عرفت معنى الحياة ، فتحولت دموعها لابتسامة ، وحزنها لفرح ، تحولت أنات قلبها لدقات

كدقات الطبول .

نظر فى عينيها ،وذاب فى عالمها الدافىء ؛ فنطقت شفتاه أجمل الكلمات فى وصف تلك النظرة

البريئة ، بأخر رحلات العمر نعتها ، وأول رحلات العمر كان لها .

لم تلق بالا حينها لمن وهبوها اياه ، لمن جاء ليغتال تلك البراءة ، ويقتل الطفلة فى ملامحها.

ولم تدرك أن عمرها سيضيع بعد عدة أشهر قلائل على يد رجل أخر لم ترتضيه ولن ترتضيه.

انفصلت عنهم بروحها ،وعاشت مع حبيبها بتلك الروح الشفافة النقية ، احتضنا سويا أمواج البحر

الهائج ،فغمرتهما تلك الأمواج حبا وعطفا وحنان لم تشهده.

على ضوء القمر تحسست ملامحه ،فاذا هو فارسا خمرى الملامح ، من فرسان الزمن القديم .

فى ذاك الضوء ذرفت الدمع على حبها المستحيل ، وواقعها المؤلم الذى تحياه، فمحى بيديه الحانيتين

ما مكث فى مقلتيها من دمعات لا يستطيع أن يمحوها سواه. وعدها ألا ينساها فأبى قلبها أن ينساه.

وبين يديها بكى ما مضى من عمره ،وبكت هى من عمرها الأت .

أفاقت من حلمها الجميل على صوت دقات الطبول ، فتحولت دقات قلبها لأنات كعزف الناى الحزين.

لم تشعر الا وهى بين أحضان ذاك الرجل.

حاولت النسيان لتحيا ،واتخذت من الكتمان والصمت ملاذا وملجأ ،ازدادت ألامها ، فعاشت بذكريات

حبها الخالد .

كانت كلماته سلوى لها ، وتنهداته نفسا تستمد منه الحياة ، ظل صوته ساكنا بأعماقها ، فناجت روحه

علها تستجيب ليحيا سويا فى عالم بعيد عن دنيا البشر (عالم الروح)

كانت هذه الكلمات بمثابة جهازا لتنفس صناعى ، فهى أشبه بالموتى ، نحل الجسد ضعفت قواها

تكاثرت أحزانها .ولم تلقاه.

لكن الأيام لم تمهلها حتى لكى تحيا بحزنها، وانفصلت عن ذلك الرجل الذى بالغ فى جرح كرامتها

واغتال الأنثى بداخلها.

ظنت أن الحياة قد ابتسمت لها ، رجعت اليه ، دقت أبواب قلبه ، كانت تخشى أن يكون قد نسيها.

تحسست الخطوات لعالمه ، راقبته من بعيد ، ولم تعلمه بما حدث.

وكانت الطامة الكبرى بحياتها والجرح الذى مابعده جرح، حين وجدت حبيب عمرها يتلهى بقلوب

الفتيات ويغمرهم بكلمات الحب والهيام ، ويصل إليهم بنفس طريقة وصوله إليها .

كان كاذبا ، نعم ؛ هذا ماعرفته بعد مضى سنوات كثيرة عاشت خلالها على أمل أن تلقاه

وأدركت حينها أنها لم تكن سوى ألعوبة وملهاة .

يا الله ، كيف رسم البسمة على شفتيها وأخرجها من أحزانها وهو يضحك عليها من صميم قلبه ، كيف

سخر من مشاعرها ورقتها وأحياها فى نفس الوقت .

ماذا كان يريد منها ؟

أراد أن يثبت لنفسه أنه مازال محبوبا ، وأن الخطوط التى رسمها الزمن فوق ملامحه لا تحول بينه

وبين هؤلاء العذراوات والنساء أيضا.

بنفس الكلمات نطق لغيرها ،ونفس التنهدات كانت لسواها.

وأمام عينيها تبخرت كل تلك المشاعر فى اللا وجود، وأصبح لها عدما معدوما.

أصبحت تراه وهو يمثل نفس التمثيلية كل يوم ،وتضحك

وأدركت أن ما كنته له ليس طيبة زائدة أو سذاجة ، انها مشاعر رقيقة طاهرة وهو لايعرف الطهر

ولا يقدره ، جففت دموعها واحتفظت بمشاعرها لمن يستحق .

ولم يستطع بجرحه لها أن يغتال رقتها وعذوبتها .

تركته يواصل كذبه ورياءه ومضت فى طريقها للنجاح والتفاؤل والأمل.

مضت فى طريقها للحياة

تمت .