تحليل حجاجي لرسالة صلاح الدين إلى أخيه سيف الإسلام
يحثه على الجهاد.
إعداد د. أيمن أبومصطفى
كتب عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن يستقدمه إليه معاونا له على قتال الفرنج
وهي :
"صدرنا هذه المكاتبة إلى المجلس ومما تجدد بحضرتنا فتوح كوكب وهي كرسي الإستبارية ودار كفرهم ومستقر صاحب أمرهم وموضع سلاحهم وذخرهم وكان بمجمع الطرق قاعدا ولملتقى السبل راصدا فتعلقت بفتحه بلاد الفتح واستوطنت وسلكت الطرق فيها وأمنت وعمرت بلادها وسكنت.
ولم يبق في هذا الجانب إلا صور، ولولا أن البحر ينجدها والمراكب تردها، لكان قيادها قد أمكن وجماحها قد أذعن وما هم بحمد الله في حصن يحميهم بل في سجن يحويهم بل هم أسارى وإن كانوا طلقاء وأموات وإن كانوا أحياء قال الله عز و جل ( فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا ) ولكل امريء أجل لا بد أن يصدقه غائبه، وأمل لا بد أن يكذبه خائبه ، وكان نزولنا على كوكب بعد أن فتحنا صفد بلد الديوية ومعقلهم ومشتغلهم وعملهم ومحلهم الأحصن، ومنزلهم وبعد أن فتحنا الكرك وحصونه والمجلس السيفي أسماه الله أعلم بما كان على الإسلام من مؤونته المثقلة وقضيته المشكلة وعلته المعضلة ، وأن الفرنج لعنهم الله كانوا يقعدون منه مقاعد للسمع ويتبوأون منه مواضع للنفع ويحولون بين قات وراكبها، فيذللون الأرض بما كان منه ثقلا على مناكبها، والآن ما أمن بلاد الهرمين بأشد من بلاد الحرمين، فكلها كان مشتركا في نصرة المسلمين بهذه القلعة التي كانت ترامي ولا ترام وتسامي ولا تسام ، وطالما استفرغنا عليها بيوت الأموال وأنفقنا فيها أعمار الرجال وقرعنا الحديد بالحديد إلى أن ضجت النصال من النصال والله المشكور على ما انطوى من كلمة الكفر وانتشر من كلمة الإسلام وإن بلاد الشام اليوم لا تسمع فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ، فادخلوها بسلام .
وكان نزولنا على كوكب والشتاء في كوكبه وقد طلع بيمن الأنواء في موكبه ، والثلوج تنشر على البلاد ملاءها الفضيض ، وتكسو الجبال عمائمها البيض، والأودية قد عجت بمائها وفاضت عند امتلائها ، وشمخت أنوفها سيولا، فخرقت الأرض، وبلغت الجبال طولا. والأوحال قد اعتقلت الطرقات ومشى المطلق فيها مشية الأسير في الحلقات، فتجشمنا العناء نحن ورجال العساكر وكاثرنا العدو والزمان وقد يحرز الحظ المكاثر، وعلم الله النية فأنجدنا بفضلها وضمير الأمانة فأعان على حملها، ونزلنا من رؤوس الجبال بمنازل كان الاستقرار عليها أصعب من نقلها والوقوف بساحتها أهون من نقلها ( وأما بنعمة ربك فحدث )، والحمد لله الذي ألهمنا بنعمته الحديث ونصر بسيف الإسلام الذي هو سيفه وسيف الإسلام الذي هو أخونا الطيب على الخبيث، فمدح السيف ينقسم على حديه، ومدح الكريم يتعدى إلى يديه .
والآن فالمجلس أسماه الله يعلم أن الفرنج لا يسلون عما فتحنا ولا يصبرون على ما جرحنا فإنهم خذلهم الله أمم لا تحصى، وجيوش لا تستقصى ، ووراءهم من ملوك البحر من يأخذ كل سفينة غصبا، ويطمع في كل مدينة كسبا، ويد الله فوق أيديهم والله محيط بأقربيهم وأبعديهم، و ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا )وما هم إلا كلاب قد تعاوت، وشياطين قد تغاوت ، وإن لم يقذفوا من كل جانب دحورا ويتبعوا بكل شهاب ثاقب مدحورا؛ استأسدوا واستكلبوا وتألبوا وجلبو وأجلبوا وحاربوا وخربوا وكانوا لباطلهم الداحض أنصر منا لحقنا الناهض وفي ضلالهم الفاضح أبصر منا لهدانا الواضح ، والله در جرير حيث يقول
إن الكريمة ينصر الكرم ابنها ... وابن اللئيمة للئام نصور
فالبدار إلى النجدة البدار، والمسارعة إلى الجنة؛ فإنها لن تنال إلا بإيقاد نار الحرب على أهل النار والهمة الهمة فإن البحار لا تلقى إلا بالبحار والملوك الكبار لا يقف في وجوهها إلا الملوك الكبار"( ).
التحليل الحجاجي
القضية المراد الإقناع بها نجدة صور.
الحجج المستخدمة:
أسلوب القصر:
"ولم يبق في هذا الجانب إلا صور" أسلوب قصر معتمد على النفي وإلا وفيه دفع لسيف الإسلام ملك اليمن لتخليص هذه المدينة، وقد عمد إلى أسلوب القصر لإثارة عاطفة الرحمة عنده، فالمدينة هي الوحيدة التي لازالت أسيرة في أيدي الأعداء.
الصورة:
ثم يقدم له سباب امتناعها عن المسلمين ، فيقول:" ولولا أن البحر ينجدها والمراكب تردها ، لكان قيادها أمكن وجماحها أذعن" فالبحر مدها بالجنود، وهذا هو سبب امتناعها ، وقد لعبت الاستعارات هنا دورا حجاجيا كبيرا " البحر ينجدها.. المراكب تردها.. قيادها أمكن ..جماحها أذعن" صور تكاد تسمع خلالها حركة السفن وحركة أمواج البحر، بل تجد البلدة تشبه حيوانا ثائرايترقب المسلمون الإمساك بلجامه؛ حتى يسيطروا عليه، وأن قوة الملك " سيف الإسلام " هي التي تعينهم على ذلك، وهنا يأتي الفعل الحجاجي"فقم وأرسل جندك وخيلك ورجالك ؛حتى تخلص المدينة من الاعداء".
ثم يصور له أهمية نجدة عكا ، موضحا له الدور الذي يمكن أن تقوم به في خدمة الإسلام ، فقد أعدها صلاح الدين ، وأنفق فيها الأموال والرجال ، يقول: " وطالما استفرغنا عليها بيوت الأموال ، وأنفقنا فيها أعمار الرجال ، وقرعنا الحديد بالحديد ، إلى أن ضجت النصال من النصال" صور بيانية متتابعة جعل الأموال" تستفرغ" لبيان الصعوبة التي كانت في جمعها ، فالمال لم يأت بسهولة ، ولذا فليس من المعقول أن تضيع المدينة بعد هذه النفقات الكثيرة.
وليس الأمر مقصورا على المال فقط ، بل إنهم انفقوا فيها أعمار الرجال، فيجعل "الأعمار أموالا تنفق " وما أشد أن تنفق الروح! فالإنسان قد يجود بماله ، ولكن الجود بالروح أصعب وأشد.
وقد جاد المسلمون بأرواحهم من أجل أن تبقى عكا صامدة ، فليس معقولا أن تتركها فريسة للأعداء، والغرض الحجاجي الناتج عن هذه الصور هو: قم وانجد هذه المدينة ، التي وضع فيه المسلمون أموالهم وأرواحهم.
ثم يقول :" والآن فالمجلس – أسماه الله – يعلم أن الفرنج لا يسلون عما فتحنا، ولا يصبرون على ما جرحنا ، وإنما أراد أن يخبر سيف الإسلام بهذه الحقائق فلجأ إلى الأسلوب الخبري في اللفظ الإنشائي في المعنى ؛ تأدبا واحتراما حتى لا يظهر بمظهر المتكبر الذي يخبر من هو أدنى منه ، وإنما أراد أن يقول له: اعلم .
ثم يوضح له قوة الغرب ؛حتى يحرص على أن يمد الإسلام بقوة تفوق قوتهم فيقول:" فإنهم – خذلهم الله – أمم لا تحصى ، وجيوش لا تستقصى ، ووراءهم من ملوك البحر من يأخذ كل سفينة غصبا ، ويطمع في كل مدينة كسبا" نجد هنا تخويفا وترهيبا وإشعالا للحفيظة، فالبلاد الإسلامية ، وخاصة عكا فريسة تحيظ بها الجوارح والضواري ، فهل من منجد؟
فالملوك الصليبيون يطاردون البلاد الإسلامية، وهنا جاء التضمين من القرآن الكريم ؛ ليهول الأمر ، ويوضح المشهد ، وكأنك ترى الملوك يأخذون البلاد عنوة وغصبا، كما يفعل ملك سورة الكهف الذي يأخذ كل سفينة صالحة غصبا.
والتشبيه في هذا السياق لعب دورا حجاجيا ظاهرا ، فالأعداء كالكلاب التي تعوي ، والشياطين التي تغوي.
فهذه الصورة التشبيهية تحمل تهويلا ، فهل هناك أشد من الشياطين والكلاب لإدخال الخوف والفزع في النفوس ؟! إنها صور منفرة تبعث الكراهية في النفس.
الحجة التبريرية:
ثم يعرض عليه ما يحبب العمل إلى نفسه ، ويجعله حريصا على النيل من الاعداء ، فقول:" وما هم –بحمد الله- في حصن يحميهم، بل في سجن يحويهم ، بل هم أسارى إن كانوا طلقاء ، وأموات وغن كانوا أحياء " فيقدم له المبررات التي تدفعه نحو سرعة القيام بالدفاع عن المدينة واستخلاصها من ايدي الأعداء، محاولا تزيين الأمر له، فهم ليسوا في حصن يحميهم بل في سجن يحويهم ، وهم اسارى وإن كانوا طلقاء، وأموات وإن كانوا أحياء".
البديع:
وقد جاءت الحجة في ثوب بديعي أكسبها تأثيرا وفاعلية، فالجناس بين (حصن/سجن) و(يحويهم/يحميهم)والسجع في (يحويهم/يحميهم)و(طلقاء/ أحياء) والجناس بين(ترامي ولا ترام)و( وتسامي ولا تسام )والتضاد بين(أسارى /طلقاء) و(أموات / أحياء) و(المطلق)و( الأسير) تضافرت كل هذه المحسنات لخدمة الحجة التي تزين نجدة المدينة ، وإرسال النجدة إلى صلاح الدين..
الحجج النقلية:
وبعد ذلك تأتي حجة نقلية قرآنية ، جاءت بأسلوب إنشائي اعتمد على النهي ، حيث يريد أن يدخل الطمأنينة على نفس سيف الإسلام ، فهؤلاء الاعداء مهزومون لامحالة؛ لان الله معنا ، وهو وعدنا بالنصر عليهم ، يقول : قال الله عز وجل: فلاتعجل عليهم إنما نعد لهم عدا " حجة تحمل النفس على الرضا وحب الانقياد لهذه الدعوة، وسرعة إنجاد المدينة.
تضمين قوله تعالى ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) ( )قال تعالى ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) ( ).
والاحتجاج بقوله تعالى:" "وأما بنعمة ربك فحدث "( )
كما جاءت حجة الشعر قول جرير
إن الكريمة يَـنصُرُ الكرَمَ إبنها *** وابن اللئيمةِ للئامِ نصُورُ
حجة نقلية دافعة إلى تقديم النصرة والنجدة وسرعة التوجه إلى ما يطلبه المتكلم ، فهو يعرض عليه نماذج أخلاقية راقية ، إن دخل تحت مظلتها كان كريما ، وإن خرج عنها كان لئيما ، فهو يقدم له الحجة لغرض حجاجي دفعي هو (انصر المجاهدين وكن كريما).
الشاهد:
يضرب له من البلاد التي فتحوها مثلا، فالذي نصرهم في "كوكب" "وسفط" و" الكرك" هو القادر على نصرهم في صور .ثم يصور له قوة الكرك: والمجلس السيفى – أسماه الله – أعلم بما كان على الإسلام من مؤنته المثقلة، وقضيته المشكلة، وعلته المعضلة، وأن الفرنج لعنهم الله كانوا يقعدون منهم مقاعد للسمع، ويتبوؤن منه مواضع للنفع ، ويحولون بين قات وراكبها ، فيذللون الأرض بما كان ثقلا على مناكبها، والآن ما أمن بلاد الهرمين بأشد من أمن بلاد الحرمين، فكلها كان مشتركا في نصرة المسلمين بهذه القلعة.
ثم يأتي التضمين في نفس السياق حجة ترغيبية ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) ( )قال تعالى ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) ( )فهذه الآيات تدخل الثقة والطمأنينة في القلب ؛ حتى ينطلق وهو واثق من نصر الله.
جملة الشرط:
وتأتي جملة الشرط " وإن لم يقذفوا من كل جانب دحورا ويتبعوا بكل شهاب ثاقب مدحورا استأسدوا واستكلبوا وتألبوا وجلبو وأجلبوا وحاربوا وخربوا وكانوا لباطلهم الداحض أنصر منا لحقنا الناهض وفي ضلالهم الفاضح أبصر منا لهدانا الواضح والله در جرير حيث يقول
( إن الكريمة ينصر الكرم ابنها ... وابن اللئيمة للئام نصور ) فالبدار إلى النجدة البدار والمسارعة إلى الجنة فإنها لن تنال إلا بإيقاد نار الحرب على أهل النار والهمة الهمة فإن البحار لا تلقى إلا بالبحار والملوك الكبار لا يقف في وجوهها إلا الملوك الكبار "
فلقد جاءت جملة الشرط وسيلة حجاجية ترغيبية في الجهاد ،ترهيبية من القعود عنه، فالأعداء إن لم يحاطوا ويدفعوا عن البلاد استفحل أمرهم ، وعلت كلمتهم ، وقد كسيت الجملة الشرطية بثوب قرآني أعطاها جمالا وجلالا ؛لتزيد النفوس إقبالا عليها .
القياس:
بيت جرير قياس يمكن صوغه بهذه الطريقة:
م 1: (مذكورة) إن الكريمة يَـنصُرُ الكرَمَ ابنها.
(أ) م2:(مضمرة)أنت ابن كريمة.
ن: انصر الكرام.
والشطر الثاني قياس أيضا:
م1: (مذكورة)ابن اللئيمةِ للئامِ نصُورُ.
(ب) م2:(مضمرة)أنت لست ابن لئيمة.
ن: لا تنصر اللئام.
أسلوب الإغراء:
ثم يأتي أسلوب الإغراء النحوي بعد الأساليب الإغرائية البلاغية ، وكأن القاضي الفاضل يريد أن يقنعه بكل وسيلة ممكنة ، باستخدام الحجج النقلية والعقلية والبلاغية والنحوية والتأثيرية المتمثلة في وسائل لتأثير الصوتي من سجع وجناس وازدواج وهي واضحة خلال الرسالة.
جاء أسلوب الإغراء ليغريه بضرورة النجدة والانتصار لدين الله ، "فالبدار إلى النجدة البدار، لمسارعة إلى الجنة ..الهمة الهمة .." فالكلمات تكاد تصرخ؛ لتشعل نار الحمية في قلب المتلقي.